العاشوراء
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين محمد وآله
الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم من الأولين والآخرين
روى الحميري بسند صحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي
فيما كتب إليه أبو الحسن الرضا (ع):
وقال أبو جعفر (أي الباقر) (ع):
«من سره أن لا يكون بينه وبين الله حجاب حتى ينظر إلى الله وينظر الله إليه، فليتول آل محمد ويبرأ
من عدوهم، ويأتم بالإمام منهم، فإنه إذا كان كذلك نظر الله إليه ونظر إلى الله». (قرب الإسناد ص351
تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت)
كنا قد تعرضنا في الأسبوع الفائت إلى الاستفتاء الموجه إلى المرجع التبريزي فيما يرتبط بتشكيك
البعض في زيارة عاشوراء من جهة اللعن الموجود فيها، حيث زعم أن اللعن ليس من طريقة أهل
البيت (ع)، وذكرنا أن الإيمان بالله وتوليه وتولي أولياءه لا ينفك عن البراءة من أنداده وأعداء أوليائه،
وأنه لا يمكن للفرد أن يجمع بين محبة ولي الله وبين محبة من يعاند ويخالف ولي الله، لأنه لا يمكن
الجمع بين الله وغير الله في آن واحد. ومما يشهد على ذلك أحاديث عديدة:
منها: ما ذكرناه من الحديث الصحيح الذي صدرنا به الخطبة.
وقول الإمام الباقر (ع) في الحديث: «نظر الله إليه» كناية عن غاية لطفه ورحمته، وقوله (ع): «نظر
إلى الله »كناية عن غاية المعرفة بحسب قابلية العبد وطاقته. (البحار ج27 ص52)
ومنها: ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن الأعمش عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال:
«وحب أولياء الله والولاية لهم واجبة، والبراءة من أعدائهم واجبة ومن الذين ظلموا آل محمد وهتكوا
حجابه فأخذوا من فاطمة فدك، ومنعوها ميراثها وغصبوها وزوجها حقوقهما، وهموا بإحراق بيتها،
وأسسوا الظلم، وغيروا سنة رسول الله، والبراءة من الناكثين والقاسطين والمارقين واجبة، والبراءة
من الأنصاب والأزلام أئمة الضلال وقادة الجور كلهم أولهم وآخرهم واجبة، والبراءة من أشقى الأولين
والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود قاتل أمير المؤمنين (ع) واجبة، والبراءة من جميع قتلة أهل البيت (ع)
واجبة». (الخصال ص607)
ومنها: ما ذكره ابن إدريس الحلي في خاتمة كتابه السرائر في قسم المستطرفات:
“ومما استطرفناه من كتاب أنس العالم تصنيف الصفواني:
قال (أي الصفواني):« روي أن رجلا قدم على أمير المؤمنين (ع) فقال له: يا أمير المؤمنين أنا أحبك،
وأحب فلانا، وسمى بعض أعدائه، فقال عليه السلام: أما الآن فأنت أعور، فإما أن تعمى وإما أن تبصر.»
وقيل للصادق (ع): إن فلانا يواليكم إلا أنه يضعف عن البراءة من عدوكم، قال: «هيهات، كذب من ادعى
محبتنا ولم يتبرأ من عدونا».
وروي عن الرضا (ع) أنه قال: «كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا».
ثم قال الصفواني:
واعلم يا بني، أنه لا تتم الولاية ولا تخلص المحبة وتثبت المودة لآل محمد صلى الله عليه وآله إلا
بالبراءة من عدوهم، قريبا كان منك أو بعيدا، فلا تأخذك به رأفة، فإن الله عز وجل يقول: ﴿ لا تجد قوما
يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو
عشيرتهم ﴾(المجادلة / 22). (السرائر ج3 ص639، عنه البحار ج27 ص58 ح17 - 19)
والصفواني هذا وصفه النجاشي بأنه “شيخ الطائفة، ثقة، فقيه فاضل"، ووصفه الشيخ الطوسي بأنه
“حفظة كثير العلم، جيد اللسان"، واسمه محمد بن أحمد بن عبد الله بن قضاعة بن صفوان بن مهران
الجمال، ومن هنا سمي بالصفواني، وله كتب، ومنها أنس العالم وأدب المتعلم. (معجم رجال الحديث
ج15 ص8، والذريعة ج2 ص368)
والحديث الأول الذي نقله الصفواني واضح الدلالة في أن من يريد أن يكون إيمانه كاملا فلابد له أن
يضم البراءة إلى جنب الولاء، فإن لم يفعل فقد إحدى عيني البصيرة فصار أعور لا يستطيع أن يبصر
بشكل صحيح ولا يصدق عليه وصف الإيمان، فإن استمر على حاله من الاقتصار على الولاء فقط فقد
عين البصيرة الأخرى فصار أعمى، وإن أضاف البراءة إلى الولاء اكتمل إيمانه ورجعت إليه عينه
المفقودة فصار بصيرا.
ومنها: ما نقله الكشي في كتابه الذي لخصه الشيخ الطوسي بإسناده عن سدير الصيرفي، قال:
“دخلت على أبي جعفر (ع) ومعي سلمة بن كهيل وأبو المقدام ثابت الحداد وسالم بن أبي حفصة
وكثير النواء وجماعة معهم، وعند أبي جعفر (ع) أخوه زيد بن علي، فقالوا لأبي جعفر (ع): نتولى عليا
وحسنا وحسينا ونتبرأ من أعدائهم، قال (ع):« نعم، قالوا: نتولى أبا بكر وعمر ونتبرأ من أعدائهم! قال
(أي سدير): فالتفت إليهم زيد بن علي، قال لهم: أتتبرأون من فاطمة، بترتم أمرنا بتركم الله، فيومئذ
سموا البترية». (اختيار معرفة الرجال ص236 ح429)
وزيد بن علي الشهيد وهو المقرب من الإمام (ع) والمرضي عنه بين من خلال جوابه أن تولي طرفين
يمثل أحدهما الحق والآخر الباطل لا يمكن، وأن التولي من الأعداء الذين غصبوا حق فاطمة وظلماها
مما استدعى منها موقفها المعروف منهم يعني التبرؤ من فاطمة ولا يمكن الجمع بين تولي فاطمة
والتبرئ منها، فإما أن يتولاها الفرد فيتبرأ من عدوها وظالمها، وإما أن يتولى ظالمها فيكون ممن تبرئ
منها.
(وللمزيد من أمثال هذه الروايات راجع البحار ج27 ص51 - 63)
وكذلك ذكرنا في الأسبوع الفائت بعض المقدمات التي تساهم في تحديد مسار البحث قبل عرض
الأدلة، وبقي منها البعض الآخر.
المقدمة الثالثة: التفريق بين الأصل والحالات الطارئة
فالقرآن الكريم ينهى المسلمين عن سب آلهة الكفار، بالرغم من أن الدين الإسلامي والتوحيد لا يتم
من دون البراءة من آلهة الكفار وكل معبود سوى الله عز وجل، والسب يعد أحد مظاهر ذلك التبرؤ، قال
تعالى:﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ﴾(الأنعام / 108) والوجه في
النهي عن سب تلك الآلهة هو ما يتسبب فيه من أثر سلبي كبير يتمثل في قيام الكفار بسب الله عز
وجل وعدم قدرة المسلمين من منعهم عن ذلك، يقول المحقق الأردبيلي:
“وهذه (أي الآية السابقة) صريحة في عدم جواز فعل مباح بل واجب لو كان موجبا لسب الإله ونحوه،
فلا يفعل شيئا يلزم منه ذلك (أي سب الإله)، من سب آلهتهم وغيره مثل سبهم وسب أصحابهم، إذا
كان موجبا لسب النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والمؤمنين، وهو ظاهر عقلا". (زبدة
البيان ص340)
ولكن هذه الحالة لا تمثل أصلا لأنها لوحظت بلحاظ أثرها، وإلا لو لم يكن ذلك الأثر موجودا كما لو كانت
الغلبة والظفر للمسلمين في استيلائهم على الكفار أو كان المسلمون فيما بينهم وضمن مجالسهم
الخاصة بحيث لا يصل سبهم لآلهة الكفار إلى الكفار فهل يصح دعوى مرجوحية السب لآلهة الكفار
لمجرد أنه سب؟!
إن البعض ممن يخلط الأوراق إما عن جهل أو عمد كرر في أكثر من حديث له الاستشهاد بالآية
السابقة لجعلها الحالة الأصلية والقاعدة الأولية في مسألة السب واللعن مع الكفار (راجع على سبيل
المثال: خطبته يوم الجمعة بتاريخ 3 من شهر رمضان 1423هـ، وكلمة له بتاريخ 25 ربيع الثاني 1420
هـ) مع أنها واضحة في أنها تتحدث عن الحالة الاستثنائية الخاصة والقاعدة الثانوية، فكيف يصح جعل
الاستثناء هو الأصل ومن خلاله يراد تعميم مفهوم اللعن والسب في الإسلام، وجعل الأصل
استثناء؟؟!!
ما لكم كيف تحكمون؟!
طبعا لا أريد القول هنا أن الأصل هو اللعن والسب مع كل أحد سواء المؤمن أو المسلم، حتى يقال
أنني من دعاة اللعن والسب بشكل مطلق فإن الأصل في المؤمن مثلا وكما سنبين إن شاء الله هو
عدم جواز اللعن والسب، ولكن ما أردت الإشارة إليه أن البعض عندما تحدث عن مسألة اللعن أو السب
للكفار وآلهتهم أكثر من الاستشهاد بالآية لتأسيس أصل المنع من السب واللعن بشكل مطلق بالرغم
من أنها تتعرض لحالة خاصة ولا تريد تأسيس القاعدة الأصلية في مسألة اللعن أو السب للكفار أو
آلهتهم.